فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{عَمَّ} أصله عما على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية فحذفت الألف وعلل بالتفرقة بينها وبين الخبرية والإيذان بشدة الاتصال وكثرة الدوران وحال العلل النحوية معلوم وقد قرأ عبد الله وأبي عكرمة وعيسى بالألف على الأصل وهو قليل الاستعمال وقال ابن جني إثبات الألف أضعف اللغتين وعليه قوله:
على ما قام يشتمني لئيم ** كخنزير تمرغ في رماد

والاستفهام للإيذان بفخامة شأن المسئول عنه وهوله وخروجه عن حدود الأجناس المعهودة أي عن أي شيء عظيم الشأن {يَتَسَاءلُونَ} الضمير لأهل مكة وأن لم يسبق ذكرهم للاستغناء عنه بحضورهم حساً مع ما في الترك على ما قيل من التحقير والإهانة لإشعاره بأن ذكرهم مما يصان عنه ساحة الذكر الحكيم ولا يتوهم العكس لمنع المقام عنه وكانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم ويخوضون فيه إنكاراً واستهزاء لكن لا على طريقة التساؤل عن حقيقته ومسماه بل عن وقوعه الذي هو حال من أحواله ووصف من أوصافه وما كما مر غير مرة وإن اشتهرت في طلب حقائق الأشياء ومسميات أسمائها لكنها قد يطلب بها الصفة والحال فيقال ما زيد ويجاب بعالم أو طبيب وقيل كانوا يتساءلون الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين استهزاء فالتساؤل متعد ومفعوله مقدر هنا وحذف لظهوره أو لأن المستعظم السؤال بقطع النظر عمن سأل أو لصون المسؤل عن ذكره مع هذا السائل وتحقيق ذلك على ما في الإرشاد أن صيغة التفاعل في الأفعال المتعدية لإفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلاً ومفعولاً معاً لكنه يرفع المتعدد على الفأعلىة ترجيحاً لجانب فأعلىته وتحال مفعوليته على دلالة الفعل كما في قولك تراءى القوم أي رأي كل واحد منهم الآخر وقد تجرد عن المعنى الثاني فيراد بها مجرد صدور الفعل عن المتعدد عارياً عن اعتبار وقوعه عليه فيذكر للفعل حينئذ مفعول كما في قولك تراأوا الهلال وقد يحذف كما فيما نحن فيه فالمعنى عن أي شيء يسأل هؤلاء القوم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وربما تجرد عن صدور الفعل عن المتعدد أيضاً فيراد بها تعدده باعتبار تعدد متعلقه مع وحدة الفاعل كما في قوله تعالى: {فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى} [النجم: 55] وذكر بعض المحققين أنه قد يكون لصيغة التفاعل على الوجه الأول مفعول أيضاً لكنه غير الذي فعل به مثل فعله كما في تعاطيا الكاس وتفاوضا الحديث وعليه قول امرئ القيس:
فلما تنازعنا الحديث واسمحت ** حصرت بغصن ذي شماريخ ميال

فمن قال إن تفاعل لا يكون الأمن اثنين ولا يكون إلا لازماً فقد غلط كما قال الطبليوسي في (شرح أدب الكاتب) إن أراد ذلك على الإطلاق وليت شعري كيف يصح ذلك مع أن مجيء تفاعل بمعنى فعل غير متعدد الفاعل كتواني زيد وتداني الأمر وتعالى الله عما يشركون كثير جدًّا وكدا مجيئه متعدياً إلى غير الذي فعل به مثل فعله كما سمعت وجوز أن يكون ضمير يتساءلون للناس عموماً سواء كانوا كفار مكة وغيرهم من المسلمين وسؤال المسلمين ليزدادوا خشية وإيماناً وسؤال غيرهم استهزاء ليزدادوا كفراً وطغياناً وهو خلال ما يقتضيه ظاهر الآيات بعد وقيل كان التساؤل عن القرآن وتعقب بأن قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض} [النبأ: 6] ظاهر في أنه كان عن البعث وهو مروي عن قتادة أيضاً لأنه من أدلته وأجيب بأن تساؤلهم عنه واستهزاؤهم به واختلافهم فيه بأنه سحر أو شعر كان لاشتماله على الأخبار بالبعث فبعد أن ذلك ما يفيد استعظام التساؤل عنه تعرض لدليل ما هو منشأ لذلك التساؤل وفيه بعد وقوله تعالى: {عَنِ النبإ العظيم} بيان لشأن المسؤل عنه إثر تفخيمه بإبهام أمره وتوجيه أذهان السامعين نحوه وتنزيلهم منزلة المستفهمين فإن إيراده على طريقة الاستفهام من علام الغيوب للتنبيه على أنه لأنقطاع قرينة وانعدام نظيره خارج عن دارة علوم الخلق خليق بأن يعتني بمعرفته ويسأل عنه كأنه قيل عن أي شيء يتساءلون هل أخبركم به ثم قيل بطريق الجواب عن النبأ العظيم على منهاج {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16] فعن متعلقة بما يدل عليه المذكور من مضمر حقه على ما قيل أن يقدر بعدها مسارعة إلى البيان ومراعاة لترتيب السؤال وإلى تعلقه بما ذكر ذهب الزجاج وهو الذي تقتضيه جزالة التنزيل وقال مكي أن ذلك بدل من ما الاستفهامية بإعادة حرف الجر وتعقبه في (الكشف) بأنه لا يصح فإن معنى الأول عن النبأ العظيم أم عن غيره والبدل لا يطابقه أعيد الاستفهام أولاً وقال الخفاجي البدلية جائزة ولا يلزم إعادة الاستفهام لأنه غير حقيقي ولا أن يكون البدل عين الأول لجواز كونه بدل بعض وقيل هو متعلق بـ: {يَتَسَاءلُونَ} المذكور و{عَمَّ} متعلق بمضمر مفسر به وأيد ذلك بقراءة الضحاك ويعقوب وابن كثير في رواية عمه بهاء السكت ووجهه أنه على الوقف وهو يدل على أنه غير متعلق بالمذكور لأنه لا يحسن الوقف بين الجار والمجرور ومتعلقه لعدم تمام الكلام ولعل من ذهب إلى الأول يقول إن إلحاق الهاء مبني على إجراء الوصل مجرى الوقف وقيل عن الأولى للتعليل وهي والثانية متعلقتان بـ: {يتساءلون} المذكور كأنه قيل عم يتساءلون أيتساءلون عن النبأ العظيم ووصف النبا وهو الخبر الذي له شأن بالعظيم لتأكيد خطره ووصفه بقوله سبحانه: {الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} للمبالغة في ذلك والإشعار بمدار التساؤل عنه وفيه متعلق بـ: {مختلفون} قدم عليه اهتماماً به ورعاية للفواصل وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات أي هم راسخون في الاختلاف فيه فمن جازم باسحالته يقول: {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا} [المؤمنون: 37] إلخ وشاك يقول: {ما ندري ما الساعة أن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32] وقيل منهم من ينكر المعادين معاً كهؤلاء ومنهم من ينرك المعاد الجسماني فقط كجمهور النصارى وقد حمل الاختلاف على الاختلاف في كيفية الإنكار فمنهم من ينكره لإنكاره الصانع المختار تعالى شأنه ومنهم من ينكره بناء على استحالة إعادة المعدوم بعينه وقيل الاختلاف بالإقرار والإنكار أو بزيادة الخشية والاستهزاء على أن ضمير {يَتَسَاءلُونَ} وضميرهم للناس عامة وقيل يجوز أن يكون الاختلاف بالإقرار والإنكار على كون ضمير {يتساءلون} للكفار أيضاً بأن يجعل للسائلين والمسؤلين والكل كما ترى وإن تفاوتت مراتب الضعف والمعول عليه الأول وقال مفتي الديار الرومية الذي يقتضيه التحقيق ويستدعيه النظر الدقيق أن يحمل اختلافهم في البعث على مخالفتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعتبر في الاختلاف محض صدور الفعل عن المتعدد حسبما قيل في التساؤل فإن الافتعال والتفاعل صيغتان متآخيتان كالاستباق والتسابق والانتضال والتناضل يجري في كل منهما ما يجري في الأخرى لا على مخالفة بعضهم لبعض على أن يكون كل من الجانبين مخالفاً اسم فاعل ومخالفاً اسم مفعول لأن الكل وإن استحق ما يذكر بعد من الردع والوعيد لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر إذ لا حقية في شيء منهما حتى يستحق من يخالفه المؤاخذة بل لمخالفته عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل الذي هو فيه مخالفون للنبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفيه أنه خلاف الظاهر وما ذكره من التعليل لا يخلو عن شيء.
وقرأ عبد الله وابن جبير {تساءلون} بغير ياء وشدة السين على أن أصله تتساءلون بتاء الخطاب فأدغمت التاء الثانية في السين.
{كَلاَّ} ردع عن التساؤل على الوجهين المتقدمين فيه وقيل عنه وعن الاختلاف بمعنى مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر البعث وتعقب بأن الجملة التي تضمنته لم تقصد لذاتها فيبعد اعتبار الردع إلى ما فيها وقوله سبحانه: {سَيَعْلَمُونَ} وعيد لأولئك المتسائلين المستهزئين بطريق الاستئناف وتعليل للردع والسين للتقريب والتأكيد ومفعول يعلمون محذوف وهو ما يلاقونه من فنون الدواهي والعقوبات والتعبير عن لقائه بالعلم لوقوعه في معرض التساؤل والمعنى ليرتدعوا عما هم عليه فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال ومثل هذا تقدير المفعول جزاء التساؤل وقيل هو ما ينبئ عنه الظاهر وهو وقوع ما يتساءلون عنه على معنى سيعلمون ذلك فيخجلون من تساؤلهم واستهزائهم بين يدي ربهم عز وجل والألم يظهر كون ما ذكر وعيداً ومن جعل ضمير {يتساءلون} للناس عامة جعل ما هنا من باب التغليب لأنه لغير المؤمنين بالبعث الجازمين به وجوز بعضهم كون كلا سيعلمون ردعاً ووعداً على الارتداع والمراد ليتردعوا فإنهم سيعلمون مثوبات الارتداع وأنت تعلم أن ذلك شائع في الوعيد وهو المتبادر منه في أمثال هذه المقامات وقوله تعالى: {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} قيل تكرير لما قبله من الردع والوعيد للمبالغة وثم للتفاوت في الرتبة فكأنه قيل لهم يوم القيامة ردع وعذاب شديدان بل لهم يومئذ أشد وأشد وبهذا الاعتبار صار كأنه مغاير لما قبله فعطف عليه وابن مالك يقول في مثله إنه من التوكيد اللفظي وإن توسط حرف العطف فلا نغفل وقيل الأول إشارة إلى ما يكون عند النزع وخروج الروح من زجر ملائكة الموت عليهم السلام وملاقاة كربات الموت وشدائده وانكشاف الغطاء والثاني إشارة إلى ما يكون في القيامة من زجر ملائكة العذاب عليهم السلام وملاقاة شديدة العقاب ف {ثُمَّ} في محلها لما بينهما من البعد الزماني ولا تكرار فيه والظاهر أن العطف على هذا وما قبله على مجموع {كلا سيعلمون} وتوهم بعضهم من كلام بعض الأجلة أن العطف على {سيعلمون} وأورد عليه أن ثم إذا كانت للتراخي الزماني يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبي بخلاف ما إذا كانت للتراخي الرتبي ووجه لدفع التخصيص بلا مخصص أنه على الثاني يفهم تفاوت الرتبة بين الردعين كتفاوتها بين الوعيدين لتبعية الردع للوعيد فلا تكون {كَلاَّ} الثانية أجنبية بخلاف الأول فإن التراخي إنما يتحقق فيما يتحقق فيه الزمان وليس هو إلا {سيعلمون} دون {كلا} فتكون هي أجنبية ثم قال ذلك المتوهم ولا يبعد أن يقال الردع الأول عن التساؤل والثاني عن الانكار أي الصريح وتفاوت ما بينهما يقتضي العطف بثم والكل كما ترى وقيل متعلق العلم في الأول البعث وفي الثاني الجزاء على إنكار وثم في محلها أي كلا سيعلمون حقية البعث إذا بعثوا {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} الجزاء على إنكاره إذا دخلوا النار وعوقبوا وجوز أن يكون المعلق مختلفاً و{ثم} للتراخي الرتبي بأن يكون المعنى سيعلم الكفار أحوالهم ثم سيعلمون أحوال المؤمنين والأول إشارة إلى العذاب الجسماني والثاني إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد وأخزى وأن يكون فاعل سيعلم في الموضعين مختلفاً بناء على أن ضمير {يَتَسَاءلُونَ} للناس عامة وثم لذلك أيضاً بأن يكون المعنى سيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم ثم سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم فيكون الأول وعداً للمؤمنين والآخر وعيداً للكافرين وهما متفاوتان رتبة ولا يخفى عليك ما في ذلك وقرأ مالك بن دينار وابن مقسم والحسن وابن عامر {ستعلمون} في الموضعين بالتاء الفوقية على نهج الالتفات إلى الخطاب الموافق لما بعده من الخطابات تشديد للردع والوعيد لا على تقدير قل لهم كلا ستعلمون إلخ فإنه ليس بذاك وإن كان فيه نوع حسن على تقدير كون المراد يسألون النبي صلى الله عليه وسلم وعن الضحاك أنه قرأ الأول بتاء الخطاب والثاني بياء الغيبة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)}
افتتاح الكلام بالاستفهام عن تساؤل جماعة عن نبأ عظيم، افتتاح تشويقٍ ثم تهويل لما سيذكر بعده، فهو من الفواتح البديعة لما فيها من أسلوب عزيز غير مألوف ومن تشويق بطريقة الإِجمال ثم التفصيل المحصلة لتمكن الخبر الآتي بعده في نفس السامع أكمل تمكن.
وإذ كان هذا الافتتاح مؤذناً بعظيم أمر كان مؤذناً بالتصدي لقول فصلٍ فيه، ولمّا كان في ذلك إشعار بأهم ما فيه خوضُهم يومئذ يُجعل افتتاحَ الكلام به من براعة الاستهلال.
ولفظ {عم} مركب من كلمتين هما حرف (عن) الجار و(مَا) التي هي اسم استفهام بمعنى: أيّ شيء، ويتَعلق {عم} بفعل {يتساءلون} فهذا مركب.
وأصل ترتيبه: يتسَاءلون عَنْ ما، فقدم اسم الاستفهام لأنه لا يقع إلا في صدر الكلام المستفهم به، وإذ قد كان اسم الاستفهام مقترناً بحرف الجر الذي تعدى به الفعل إلى اسم الاستفهام وكان الحرف لا ينفصل عن مجروره قُدِّما معاً فصار {عَمَّا يتساءلون}.
وقد جرى الاستعمال الفصيح على أن (ما) الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر يحذف الألف المختومة هي به تفرقةً بينها وبين (مَا) الموصولة.
وعلى ذلك جرى استعمال نُطقهم، فلما كتبوا المصاحف جروا على تلك التفرقة في النطق فكتبوا (ما) الاستفهامية بدون ألف حيثما وقعت مثل قوله تعالى: {فيم أنت من ذكراها} [النازعات: 43] {فبم تبشرون} [الحجر: 54] {لم أذنت لهم} [التوبة: 43] {عم يتساءلون} {مم خلق} [الطارق: 5] فلذلك لم يقرأها أحد بإثبات الألف إلا في الشاذّ.
ولما بقيت كلمة (ما) بعد حذف ألفها على حرف واحد جَرَوْا في رسم المصحف على أن ميمها الباقية تكتب متصلة بحرف (عن) لأن (مَا) لما حذف ألفها بقيت على حرف واحد فأشبه حروف التهجّي، فلما كان حرف الجر الذي قبل (ما) مختوماً بنون والتقتِ النون مع ميم (مَا)، والعرب ينطقون بالنون الساكنة التي بعدها ميم ميماً ويدغمونها فيها، فلما حذفت النون في النطق جرى رسمهم على كتابة الكلمة محذوفة النون تبعاً للنطق، ونظيره قوله تعالى: {مِمَّ خلق} وهو اصطلاح حسن.
والتساؤل: تفاعل وحقيقة صيغة التفاعل تفيد صدور معنى المادة المشتقة منها من الفاعل إلى المفعول وصدور مثله من المفعول إلى الفاعل، وتَرد كثيراً لإفادة تكرر وقوع ما اشتقت منه نحو قولهم: سَاءَلَ، بمعنى: سأل، قال النابغة:
أُسائل عن سُعدَى وقد مرَّ بعدنا ** على عَرصات الدار سبع كوامل

وقال رويشد بن كثير الطائي:
يَا أيُّها الراكب المزجي مطيته ** سَائِلْ بني أسد ما هذه الصوت

وتجيء لإفادة قوة صدور الفعل من الفاعل نحو قولهم: عافاك الله، وذلك إما كناية أو مجاز ومَحملهُ في الآية على جواز الاحتمالات الثلاثة وذلك من إرادة المعنى الكنائي مع المعنى الصريح، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وكلا الاعتبارين صحيح في الكلام البليغ فلا وجه لمنعه.
فيجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها بأن يسأل بعضهم بعضاً سؤال متطلع للعلم لأنهم حينئذ لم يزالوا في شك من صحة ما أنبئوا به ثم استقر أمرهم على الإِنكار.
ويجوز أن تكون مستعملة في المجاز الصوري يتظاهرون بالسؤال وهم موقنون بانتفاء وقوع ما يتساءلون عنه على طريقة استعمال فعل (يحذر) في قوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة} [التوبة: 64] فيكونون قصدوا بالسؤال الاستهزاء.
وذهب المفسرون فريقين في كلتا الطريقتين يُرجَّحُ كلُّ فريق ما ذهب إليه.
والوجه حمل الآية على كلتيهما لأن المشركين كانوا متفاوتين في التكذيب، فعن ابن عباس: لما نزل القرآن كانت قريش يتحدثون فيما بينهم فمنهم مصدق ومنهم مكذب.
وعن الحسن وقتادة مثل قول ابن عباس، وقيل: هو سؤال استهزاء أو تعجب وإنما هم موقنون بالتكذيب.
فأما التساؤل الحقيقي فأنْ يَسْأَل أحد منهم غيره عن بعض أحوال هذا النبأ فيسأل المسؤولُ سائله سؤالاً عن حال آخرَ من أحوال النبأ، إذ يخطر لكل واحد في ذلك خاطر غيرُ الذي خطر للآخر فيسأل سؤال مستثبت، أو سؤال كشف عن معتقَده، أو ما يُوصَف به المخبر بهذا النبأ كما قال بعضهم لبعض: {أفْتَرى على الله كذباً أم به جنة} [سبأ: 8] وقال بعض آخر: {أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمُخرَجون} إلى قوله: {إنْ هذا إلا أساطير الأولين} [النمل: 67، 68].
وأما التساؤل الصوري فأن يسأل بعضهم بعضاً عن هذا الخبر سؤال تهكم واستهزاء فيقول أحدهم: هل بلغك خبر البعث؟ ويقول له الآخر: هل سمعتَ ما قال؟ فإطلاق لفظ التساؤل حقيقي لأنه موضوع لمثل تلك المساءلة وقصدُهم منه غير حقيقي بل تهكمي.
والاستفهام بما في قوله: {عم يتساءلون} ليس استفهاماً حقيقياً بل هو مستعمل في التشويق إلى تلقي الخبر نحو قوله تعالى: {هل أنبئكم على من تنزّل الشياطين} [الشعراء: 221].
والموجَّه إليه الاستفهام من قبيل خطاب غير المعين.
وضمير {يتساءلون} يجوز أن يكون ضمير جماعة الغائبين مراداً به المشركون ولم يسبق لهم ذكر في هذا الكلام ولكن ذكرهم متكرر في القرآن فصاروا معروفين بالقصد من بعض ضمائره، وإشاراته المبهمة، كالضمير في قوله تعالى: {حتى توارتْ بالحجاب} [ص: 32] يعني الشمس {كلا إذا بلغتْ التراقيَ} [القيامة: 26] يعني الروح، فإن جعلت الكلام من باب الالتفات فالضمير ضمير جماعة المخاطبين.
ولما كان الاستفهام مستعملاً في غير طلب الفهم حَسن تعقيبه بالجواب عنه بقوله: {عن النبأ العظيم} فجوابه مستعملة بياناً لما أريد بالاستفهام من الإِجمال لقصد التفخيم فبُيِّن جانب التفخيم ونظيره قوله تعالى: {هل أنبئكم على من تنزّل الشياطين تَنَزَّلَ على كل أفّاك أثيم} [الشعراء: 221، 222]، فكأنه قيل: هم يتساءلون عن النبأ العظيم ومنه قول حسان بن ثابت:
لمن الدار أقفرت بمعان ** بين أعلى اليرموك والصُّمّان

ذاك مَغنى لآل جَفْنةَ في الده ** ر وحَقٌّ تقلُّب الأزمان

والنَّبَأ: الخَبَر.
قيل: مطلقاً فيكون مرادفاً للَفْظِ الخبر، وهو الذي جرى عليه إطلاق (القاموس) و(الصحاح) و(اللسان).
وقال الراغب: النبأ الخبر ذو الفائدة العظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة ويكون صادقاً. اهـ.
وهذا فرق حسن ولا أحسب البلغاء جَروا إلاّ على نحو ما قال الراغب فلا يقال للخبر عن الأمور المعتادة: نبأ وذلك ما تدل عليه موارد استعمال لفظ النبأ في كلام البلغاء، وأحسب أن الذين أطلقوا مرادفة النبأ للخبر راعَوا ما يقع في بعض كلام الناس من تسامح بإطلاق النبأ بمعنى مطلق الخبر لضرب من التأويل أو المجاز المرسل بالإطلاق والتقييد، فكثر ذلك في الكلام كثرة عسر معها تحديد مواقع الكلمتين ولكنْ أبلغُ الكلام لا يليق تخريجه إلا على أدق مواقع الاستعمال.
وتقدم عند قوله تعالى: {ولقد جاءك من نبإِىْ المرسلين} في سورة الأنعام (34) وقوله: {قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون} [ص: 67، 68].
والعظيم حقيقته: كبير الجسم ويستعار للأمر المهم لأن أهمية المعنى تتخيّل بكبر الجسم في أنها تقع عند مدركها كمرأى الجسم الكبير في مرأى العين وشاعَت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة.
ووصف {النبأ} بـ: {العظيم} هنا زيادة في التنويه به لأن كونه وارداً من عالِم الغيب زاده عظمَ أوصاف وأهوال، فوصف النبأ بالعظيم باعتبار ما وُصف فيه من أحوال البعث في ما نزل من آيات القرآن قبلَ هذا.
ونظيره قوله تعالى: {قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون} في سورة ص (67، 68).
والتعريف في {النبأ} تعريف الجنس فيشمل كل نبأ عظيم أنبأهم الرسول صلى الله عليه وسلم به، وأول ذلك إنباؤه بأن القرآن كلام الله، وما تضمنه القرآن من إبطال الشرك، ومن إثبات بعث الناس يوم القيامة، فما يروى عن بعض السلف من تعيين نبأ خاص يُحمل على التمثيل.
فعن ابن عباس: هو القرآن، وعن مجاهد وقتادة: هو البعث يوم القيامة.
وسَوق الاستدلال بقوله: {ألم نجعل الأرض مهاداً} إلى قوله: {وجنات ألفافاً} [النبأ: 16] يدل دلالة بينة على أن المراد من {النبأ العظيم} الإنباء بأن الله واحد لا شريك له.
وضمير {هم فيه مختلفون} يَجري فيه الوجهان المتقدمان في قوله: {يتساءلون}.
واختلافهم في النبأ اختلافهم فيما يصفونه به، كقول بعضهم: {إن هذا إلا أساطير الأولين} [الأنعام: 25] وقول بعضهم: هذا كلام مجنون، وقول بعضهم: هذا كذب، وبعضهم: هذا سحر، وهم أيضاً مختلفون في مراتب إنكاره.
فمنهم من يقطع بإنكار البعث مثل الذين حكى الله عنهم بقوله: {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة} [سبأ: 7 8]، ومنهم من يشكّون فيه كالذين حكى الله عنهم بقوله: {قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32] على أحد التفسيرين.
وجيء بالجملة الإسمية في صلة الموصول دون أن يقول: الذي يَختلفون فيه أو نحو ذلك، لتفيد الجملة الإسمية أن الاختلاف في أمر هذا النبأ متمكن منهم ودائم فيهم لدلالة الجملة الإسمية على الدوام والثبات.
وتقديم {عنه} على {معرضون} [ص: 68] للاهتمام بالمجرور وللإشعار بأن الاختلاف ما كان من حقه أن يتعلق به، مع ما في التقديم من الرعاية على الفاصلة.
{كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)}
{كلا} حرف ردع وإبطال لشيء يسبقه غالباً في الكلام يقتضي ردع المنسوب إليه وإبطال ما نسب إليه، وهو هنا ردع للذين يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون على ما يحتمله التساؤل من المعاني المتقدمة، وإبطال لما تضمنته جملة {يتساءلون} [النبأ: 1] من تساؤل معلوم للسامعين.
فموقع الجملة موقع الجواب عن السؤال ولذلك فصلت ولم تعطف لأن ذلك طريقة السؤال والجواب.
والكلام وإن كان إخباراً عنهم فإنهم المقصودون به فالردع موجه إليهم بهذا الاعتبار.
والمعنى: إبطال الاختلاف في ذلك النبأ وإنكار التساؤل عنه ذلِك التساؤُل الذي أرادوا به الاستهزاء وإنكار الوقوع، وذلك يُثبت وقوع ما جاء به النبأ وأنه حق لأن إبطال إنكار وقوعه يفضي إلى إثبات وقوعه.
والغالب في استعمال {كلاّ} أن تعقّب بكلام يبيِّن ما أجملتْه من الردع والإِبطال فلذلك عقبت هنا بقوله: {سيعلمون} وهو زيادة في إبطال كلامهم بتحقيق أنهم سيوقنون بوقوعه ويعاقَبون على إنكاره، فهما علمان يحصلان لهم بعد الموت: علم بحق وقوعِ البعث، وعلمٌ في العقاب عليه.
ولذلك حذف مفعول {سيعلمون} ليعُمّ المعلومَيْن فإنهم عند الموت يرون ما سيصيرون إليه فقد جاء في الحديث الصحيح «إن الكافر يرى مقعده فيقال له هذا مقعدك حتى تبعث» وفي الحديث: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حُفر النار» وذلك من مشاهد رُوح المقبور وهي من المكاشفات الروحية وفسر بها قوله تعالى: {لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين} [التكاثر: 6، 7].
فتضمن هذا الإبطال وما بعده إعلاماً بأن يوم البعث واقع، وتضمن وعيداً وقد وقع تأكيده بحرف الاستقبال الذي شأنه إفادة تقريب المستقبل.
ومن محاسن هذا الأسلوب في الوعيد أن فيه إيهاماً بأنهم سيعلمون جواب سؤالهم الذي أرادوا به الإحالة والتهكم، وصوروه في صورة طلب الجواب فهذا الجواب من باب قول الناس: الجوابُ ما ترى لا ما تسمع.
{ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)}
ارتقاء في الوعيد والتهديد فإن {ثم} لما عطفتَ الجملة فهي للترتيب الرتبي، وهو أن مدلول الجملة التي بعدها أرقى رتبة في الغرض من مضمون الجملة التي قبلها، ولما كانت الجملة التي بعد {ثم} مثل الجملة التي قبل {ثم} تعيّن أن يكون مضمون الجملة التي بعد {ثم} أرقى درجة من مضمون نظيرها.
ومعنى ارتقاء الرتبة أن مضمون ما بعد {ثم} أقوى من مضمون الجملة التي قبل {ثم}، وهذا المضمون هو الوعيد، فلما استفيد تحقيق وقوع المتوعد به بما أفاده التوكيد اللفظي إذ الجملة التي بعد {ثم} أكدت الجملة التي قبلها تعيّن انصراف معنى ارتقاء رتبة معنى الجملة الثانية هو أن المتوعد به الثاني أعظم مما يحسبون.
وضمير {سيعلمون} في الموضعين يجري على نحو ما تقدم في ضمير {يتساءلون} [النبأ: 1] وضمير {فيه مختلفون} [النبأ: 3]. اهـ.